الخميس، 3 نوفمبر 2016

المنتخب من مجموع الفتاوي لابن تيمية 24

" تحقيق المناط " و " تنقيح المناط " و " تخريج المناط " هي جماع الاجتهاد.

وأما سؤال السائل عن المواظبة على ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم في عبادته وعادته هل هي سنة؟ أم تختلف باختلاف أحوال الراتبين؟ فيقال: الذي نحن مأمورون به هو طاعة الله ورسوله فعلينا أن نطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمرنا به فإن الله قد ذكر طاعته في أكثر من ثلاثين موضعا من كتابه فقال تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} وقال: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} . وقد أوجب السعادة لمن أطاعه بقوله: {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا} وعلق السعادة والشقاوة بطاعته ومعصيته في قوله: {ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم} {ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين} . وكان صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: {من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولن يضر الله شيئا} وجميع الرسل دعوا إلى عبادة الله وتقواه. وخشيته وإلى طاعتهم كما قال نوح عليه السلام {أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون} وقال تعالى: {ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون} وقال كل من نوح والنبيين: {فاتقوا الله وأطيعون.} وطاعة الرسول فيما أمرنا به هو الأصل الذي على كل مسلم أن يعتمده وهو سبب السعادة كما أن ترك ذلك سبب الشقاوة وطاعته في أمره أولى بنا من موافقته في فعل لم يأمرنا بموافقته فيه باتفاق المسلمين ولم يتنازع العلماء أن أمره أوكد من فعله؛ فإن فعله قد يكون مختصا به وقد يكون مستحبا وأما أمره لنا فهو من دين الله الذي أمرنا به. ومن أفعاله ما قد علم أنه أمرنا أن نفعل مثله كقوله: {صلوا كما رأيتموني أصلي} وقوله: لما صلى بهم على المنبر: {إنما فعلت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي} وقوله لما حج: {خذوا عني مناسككم.} وأيضا فقد ثبت بالكتاب والسنة أن ما فعله على وجه العادة فهو مباح لنا إلا أن يقوم دليل على اختصاصه به كما قال سبحانه وتعالى {فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا} فأباح له أن يتزوج
امرأة دعيه ليرفع الحرج عن المؤمنين في أزواج أدعيائهم فعلم أن ما فعله كان لنا مباحا أن نفعله. ولما خصه ببعض الأحكام قال: {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما} فلما أحل له أن ينكح الموهوبة بين أن ذلك خالص له من دون المؤمنين فليس لأحد أن ينكح امرأة بلا مهر غيره صلى الله عليه وسلم. وفي صحيح مسلم: {أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيقبل الصائم؟ فقال له: سل هذه - لأم سلمة - فأخبرتهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك فقال: يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال له: أما والله إنني لأتقاكم لله وأخشاكم له.} فلما أجابه صلى الله عليه وسلم بفعله دل ذلك على أنه يباح للأمة ما أبيح له؛ ولهذا كان جمهور علماء الأمة على أن الله إذا أمره بأمر أو نهاه عن شيء كانت أمته أسوة له في ذلك ما لم يقم دليل على اختصاصه بذلك.

فمن خصائصه: ما كان من خصائص نبوته ورسالته فهذا ليس لأحد أن يقتدي به فيه فإنه لا نبي بعده وهذا مثل كونه يطاع في كل ما يأمر به وينهى عنه وإن لم يعلم جهة أمره حتى يقتل كل من أمر بقتله وليس هذا لأحد بعده فولاة الأمور من العلماء والأمراء يطاعون إذا لم يأمروا بخلاف أمره؛ ولهذا جعل الله طاعتهم في ضمن طاعته. قال الله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} . فقال: وأطيعوا الرسول وأولي الأمر لأن أولي الأمر يطاعون طاعة تابعة لطاعته فلا يطاعون استقلالا ولا طاعة مطلقة وأما الرسول فيطاع طاعة مطلقة مستقلة فإنه: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} فقال تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} فإذا أمرنا الرسول كان علينا أن نطيعه وإن لم نعلم جهة أمره وطاعته طاعة الله لا تكون طاعته بمعصية الله قط بخلاف غيره. وقد ذكر الناس من خصائصه فيما يجب عليه ويحرم عليه ويكرم به ما ليس هذا موضع تفصيله. وبعض ذلك متفق عليه وبعضه متنازع فيه. وقد كان صلى الله عليه وسلم إمام الأمة وهو الذي يقضي بينهم وهو الذي يقسم وهو الذي يغزو بهم وهو الذي يقيم الحدود وهو الذي يستوفي الحقوق وهو الذي يصلي بهم فالاقتداء به في كل مرتبة بحسب تلك المرتبة فإمام الصلاة والحج يقتدي به في ذلك وأمير الغزو يقتدي به في ذلك والذي يقيم الحدود يقتدي به في ذلك. والذي يقضي أو يفتي يقتدي به في ذلك. وقد تنازع الناس في أمور فعلها: هل هي من خصائصه أم للأمة فعلها؟ كدخوله في الصلاة إماما بعد أن صلى بالناس غيره وكتركه الصلاة على الغال والقاتل. وأيضا فإذا فعل فعلا لسبب وقد علمنا ذلك السبب أمكننا أن نقتدي به فيه فأما إذا لم نعلم السبب أو كان السبب أمرا اتفاقيا فهذا مما يتنازع فيه الناس: مثل نزوله في مكان في سفره. فمن العلماء من يستحب أن ينزل حيث نزل كما كان ابن عمر يفعل وهؤلاء يقولون نفس موافقته في الفعل هو حسن وإن كان فعله هو اتفاقا ونحن فعلناه لقصد التشبه به. ومن العلماء من يقول إنما تستحب المتابعة إذا فعلناه على الوجه الذي فعله فأما إذا فعله اتفاقا لم يشرع لنا أن نقصد ما لم يقصده؛ ولهذا كان أكثر المهاجرين والأنصار لا يفعلون كما كان ابن عمر يفعل. وأيضا فالاقتداء به يكون تارة في نوع الفعل وتارة في جنسه فإنه قد يفعل الفعل لمعنى يعم ذلك النوع وغيره لا لمعنى يخصه فيكون المشروع هو الأمر العام. مثال ذلك احتجامه صلى الله عليه وسلم فإن ذلك كان لحاجته إلى إخراج الدم الفاسد ثم التأسي هل مخصوص بالحجامة؟ أو المقصود إخراج الدم على الوجه النافع؟ ومعلوم أن التأسي هو المشروع فإذا كان البلد حارا يخرج فيه الدم إلى الجلد كانت الحجامة هي المصلحة وإن كان البلد باردا يغور فيه الدم إلى العروق كان إخراجه بالفصد هو المصلحة. وكذلك ادهانه صلى الله عليه وسلم. هل المقصود خصوص الدهن أو المقصود ترجيل الشعر؟ فإن كان البلد رطبا وأهله يغتسلون بالماء الحار الذي يغنيهم عن الدهن والدهن يؤذي شعورهم وجلودهم يكون المشروع في حقهم ترجيل الشعر بما هو أصلح لهم ومعلوم أن الثاني هو الأشبه. وكذلك لما كان يأكل الرطب والتمر وخبز الشعير ونحو ذلك من قوت بلد فهل التأسي به أن يقصد خصوص الرطب والتمر والشعير حتى يفعل ذلك من يكون في بلاد لا ينبت فيها التمر ولا يقتاتون الشعير بل يقتاتون البر أو الرز أو غير ذلك ومعلوم أن الثاني هو المشروع. والدليل على ذلك أن الصحابة لما فتحوا الأمصار كان كل منهم يأكل من قوت بلده ويلبس من لباس بلده من غير أن يقصد أقوات المدينة ولباسها ولو كان هذا الثاني هو الأفضل في حقهم لكانوا أولى باختيار الأفضل.

وعلى هذا يبنى نزاع العلماء في صدقة الفطر: إذا لم يكن أهل البلد يقتاتون التمر والشعير. فهل يخرجون من قوتهم كالبر والرز أو يخرجون من التمر والشعير. لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرض ذلك فإن في الصحيحين عن ابن عمر أنه قال: {فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على كل صغير أو كبير ذكر أو أنثى حر أو عبد من المسلمين} . وهذه المسألة فيها قولان للعلماء وهما روايتان عن أحمد وأكثر العلماء على أنه يخرج من قوت بلده وهذا هو الصحيح كما ذكر الله ذلك في الكفارة بقوله: {من أوسط ما تطعمون أهليكم} . ومن هذا الباب: أن الغالب عليه وعلى أصحابه أنهم كانوا يأتزرون ويرتدون؛ فهل الأفضل لكل أحد أن يرتدي ويأتزر ولو مع القميص؟ أو الأفضل أن يلبس مع القميص السراويل من غير حاجة إلى الإزار والرداء. هذا أيضا مما تنازع فيه العلماء والثاني أظهر وهذا باب واسع. وهذا النوع ليس مخصوصا بفعله وفعل أصحابه بل وبكثير مما أمرهم به ونهاهم عنه وهذا سمته طائفة من الناس: " تنقيح المناط " وهو أن يكون الحكم قد ثبت في عين معينة وليس مخصوصا بها بل الحكم ثابت فيها وفي غيرها فيحتاج أن يعرف " مناط الحكم ".

مثال ذلك أنه قد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم {سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال: القوها وما حولها وكلوا سمنكم} فإنه متفق على أن الحكم ليس مختصا بتلك الفأرة وذلك السمن؛ بل الحكم ثابت فيما هو أعم منهما فبقي المناط الذي علق به الحكم ما هو؟ فطائفة من أهل العلم يزعمون أن الحكم مختص بفأرة وقعت في سمن فينجسون ما كان كذلك مطلقا ولا ينجسون السمن إذا وقع فيه الكلب والبول والعذرة ولا ينجسون الزيت ونحوه. إذا وقعت فيه الفأرة وهذا القول خطأ قطعا. وليس هذا مبنيا على كون القياس حجة. فإن القياس الذي يكون النزاع فيه هو تخريج المناط وهو أن يجوز اختصاص مورد النص بالحكم فإذا جاز اختصاصه وجاز أن يكون الحكم مشتركا بين مورد النص وغيره. احتاج معتبر القياس إلى أن يعلم أن المشترك بين الأصل والفرع هو مناط الحكم كما في قوله: {لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تبيعوا الفضة بالفضة إلا مثلا بمثل ولا تبيعوا الشعير بالشعير إلا مثلا بمثل ولا تبيعوا الملح بالملح إلا مثلا بمثل} فلما نهى عن التفاضل في مثل هذه الأصناف أمكن أن يكون النهي لمعنى مشترك ولمعنى مختص. ولما سئل عن فأرة وقعت في سمن فأجاب: عن تلك

القضية المعينة ولا خفاء أن الحكم ليس مختصا بها وكذلك سائر قضايا الأعيان كالأعرابي الذي قال له: إني وقعت على أهلي في رمضان فأمره. أن يعتق رقبة أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكينا فإن الحكم ليس مخصوصا بذلك الأعرابي باتفاق المسلمين. لكن هل أمره بذلك لكونه أفطر أو جامع في رمضان أو أفطر فيه بالجماع أو أفطر بالجنس الأعلى هذا مما تنازع فيه العلماء. وكذلك لما سأله سائل عمن أحرم بالعمرة وعليه جبة وهو متضمخ بالخلوق. فقال: {انزع عنك الجبة واغسل عنك أثر الخلوق واصنع في عمرتك ما كنت صانعا في حجتك} . فهل أمره بغسل الخلوق لكونه طيبا حتى يؤمر المحرم بغسل كل طيب كان عليه أو لكونه خلوقا لرجل؟ وقد نهى أن يتزعفر الرجل فينهى عن الخلوق للرجل سواء كان محرما أو غير محرم. وكذلك لما عتقت بريرة فخيرها فاختارت نفسها عند من يقول: إن زوجها كان عبدا فإن المسلمين اتفقوا على أن الحكم لا يختص بها: لكن هل التخيير لكونها عتقت تحت عبد فكملت تحت ناقص؟ ولا تخير إذا عتقت تحت الحر أو الحكم لكونها ملكت نفسها فتخير سواء كان الزوج حرا أو عبدا؟ هذا مما تنازعوا فيه. وهذا باب واسع وهو متناول لكل حكم تعلق بعين معينة مع العلم بأنه لا يختص بها

فيحتاج أن يعرف المناط الذي يتعلق به الحكم وهذا النوع يسميه بعض الناس قياسا؛ وبعضهم لا يسميه قياسا؛ ولهذا كان أبو حنيفة وأصحابه يستعملونه في المواضع التي لا يستعملون فيها القياس. والصواب أن هذا ليس من القياس الذي يمكن فيه النزاع كما أن تحقيق المناط ليس مما يقبل النزاع باتفاق العلماء. وهذه الأنواع الثلاثة " تحقيق المناط " و " تنقيح المناط " و " تخريج المناط " هي جماع الاجتهاد.
فالأول أن يعمل بالنص والإجماع؛ فإن الحكم معلق بوصف يحتاج في الحكم على المعين إلى أن يعلم ثبوت ذلك الوصف فيه كما يعلم أن الله أمرنا بإشهاد ذوي عدل منا وممن نرضى من الشهداء ولكن لا يمكن تعيين كل شاهد فيحتاج أن يعلم في الشهود المعينين: هل هم من ذوي العدل المرضيين أم لا؟ وكما أمر الله بعشرة الزوجين بالمعروف وقال النبي صلى الله عليه وسلم {للنساء رزقهن وكسوتهن بالمعروف} ولم يمكن تعيين كل زوج فيحتاج أن ينظر في الأعيان. ثم من الفقهاء من يقول إن نفقة الزوجة مقدرة بالشرع والصواب ما عليه الجمهور أن ذلك مردود إلى العرف كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لهند: {خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف} .

وكما قال تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} ويبقى النظر في تسليمه إلى هذا التاجر بجزء من الربح. هل هو من التي هي أحسن أم لا؟ وكذلك قوله: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} يبقى هذا الشخص المعين هل هو من الفقراء المساكين المذكورين في القرآن أم لا؟ وكما حرم الله الخمر والربا عموما يبقى الكلام في الشراب المعين. هل هو خمر أم لا؟ وهذا النوع مما اتفق عليه المسلمون بل العقلاء: بأنه لا يمكن أن ينص الشارع على حكم كل شخص إنما يتكلم بكلام عام وكان نبينا صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم. (وأما النوع الثاني الذي يسمونه " تنقيح المناط " بأن ينص على حكم أعيان معينة؛ لكن قد علمنا أن الحكم لا يختص بها فالصواب في مثل هذا أنه ليس من باب القياس لاتفاقهم على النص بل المعين هنا نص على نوعه ولكنه يحتاج إلى أن يعرف نوعه ومسألة الفأرة في السمن من هذا الباب فإن الحكم ليس مخصوصا بتلك الفأرة وذلك السمن. ولا بفأر المدينة وسمنها ولكن السائل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن فأرة وقعت في سمن؛ فأجابه؛ لا إن الجواب يختص به ولا بسؤاله. كما أجاب غيره ولفظ الفأرة والسمن ليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم حتى يكون هو الذي علق الحكم بها بل من كلام السائل الذي أخبر بما وقع له كما قال له

الأعرابي: إنه وقع على امرأته ولو وقع على سريته لكان الأمر كذلك وكما قال له الآخر: رأيت بياض خلخالها في القمر فوثبت عليها ولو وطئها بدون ذلك كان الحكم كذلك. فالصواب في هذا ما عليه الأئمة المشهورون: أن الحكم في ذلك معلق بالخبيث الذي حرمه الله إذا وقع في السمن ونحوه من المائعات لأن الله أباح لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث فإذا علقنا الحكم بهذا المعنى كنا قد اتبعنا كتاب الله فإذا وقع الخبيث في الطيب ألقى الخبيث وما حوله وأكل الطيب كما أمر النبي. صلى الله عليه وسلم وليس هذا الجواب موضع بسط مثل هذه المسائل. ولكن نبهنا على هذا لأن الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في أفعاله يتعلق بهذا. وحينئذ هذا مما يتعلق باجتهاد الناس واستدلالهم وما يؤتيهم الله من الفقه والحكمة والعلم وأحق الناس بالحق من علق الأحكام بالمعاني التي علقها بها الشارع. وهذا موضع تفاوت فيه الناس وتنازعوا: هل يستفاد ذلك من خطاب الشارع؟ أو من المعاني القياسية؟ فقوم زعموا أن أكثر أحكام أفعال العباد لا يتناولها خطاب الشارع بل تحتاج إلى القياس. وقوم زعموا أن جميع أحكامها ثابتة بالنص وأسرفوا في تعلقهم بالظاهر

حتى أنكروا فحوى الخطاب وتنبيهه. كقوله تعالى: {فلا تقل لهما أف} وقالوا: إن هذا لا يدل إلا على النهي عن التأفيف لا يفهم منه النهي عن الضرب والشتم وأنكروا " تنقيح المناط " وادعوا في الألفاظ من الظهور ما لا تدل عليه وقوم يقدمون القياس تارة لكون دلالة النص غير تامة أو لكونه خبر الواحد وأقوام يعارضون بين النص والقياس ويقدمون النص ويتناقضون ونحن قد بينا في غير هذا الموضع أن الأدلة الصحيحة لا تتناقض فلا تتناقض الأدلة الصحيحة العقلية والشرعية ولا تتناقض دلالة القياس إذا كانت صحيحة ودلالة الخطاب إذا كانت صحيحة. فإن القياس الصحيح حقيقة التسوية بين المتماثلين وهذا هو العدل الذي أنزل الله به الكتاب وأرسل به الرسل والرسول لا يأمر بخلاف العدل ولا يحكم في شيئين متماثلين بحكمين مختلفين ولا يحرم الشيء ويحل نظيره. وقد تأملنا عامة المواضع التي قيل: إن القياس فيها عارض النص وأن حكم النص فيها على خلاف القياس. فوجدنا ما خصه الشارع بحكم عن نظائره فإنما خصه به لاختصاصه بوصف أوجب اختصاصه بالحكم كما خص العرايا بجواز بيعها بمثلها خرصا لتعذر الكيل مع

الحاجة إلى البيع والحاجة توجب الانتقال إلى البدل عند تعذر الأصل. فالخرص عند الحاجة قام مقام الكيل كما يقوم التراب مقام الماء والميتة مقام المذكى عند الحاجة وكذلك قول من قال: القرض أو الإجارة أو القراض أو المساقاة أو المزارعة ونحو ذلك على خلاف القياس إن أراد به أن هذه الأفعال اختصت بصفات أوجبت أن يكون حكمها مخالفا لحكم ما ليس مثلها فقد صدق. وهذا هو مقتضى القياس وإن أراد أن الفعلين المتماثلين حكم فيهما بحكمين مختلفين فهذا خطأ ينزه عنه من هو دون الأنبياء صلوات الله عليهم. ولكن هذه الأقيسة المعارضة هي الفاسدة كقياس الذين قالوا: {إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا} وقياس الذين قالوا " أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؟ " يعنون الميتة " وقال تعالى: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} . ولعل من رزقه الله فهما وآتاه من لدنه علما يجد عامة الأحكام التي تعلم بقياس شرعي صحيح يدل عليها الخطاب الشرعي كما أن غاية

ما يدل عليه الخطاب الشرعي هو موافق للعدل الذي هو مطلوب القياس الصحيح. وإذا كان الأمر كذلك: فالكلام في أعيان أحوال الرجل السالك يحتاج إلى نظر خاص واستهداء من الله والله قد أمر العبد أن يقول في كل صلاة: {اهدنا الصراط المستقيم} {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} . فعلى العبد أن يجتهد في تحقيق هذا الدعاء ليصير من الذين أنعم الله عليهم: من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.


ج22ص334

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق