الجمعة، 28 أكتوبر 2016

المنتخب من مجموع الفتاوي لابن تيمية 22

فإذا رأيت إماما قد غلظ على قائل مقالته أو كفره فيها فلا يعتبر هذا حكما عاما في كل من قالها إلا إذا حصل فيه الشرط الذي يستحق به التغليظ عليه والتكفير له؛ فإن من جحد شيئا من الشرائع الظاهرة وكان حديث العهد بالإسلام أو ناشئا ببلد جهل لا يكفر حتى تبلغه الحجة النبوية. وكذلك العكس إذا رأيت المقالة المخطئة قد صدرت من إمام قديم فاغتفرت؛ لعدم بلوغ الحجة له؛ فلا يغتفر لمن بلغته الحجة ما اغتفر للأول فلهذا يبدع من بلغته أحاديث عذاب القبر ونحوها إذا أنكر ذلك ولا تبدع عائشة ونحوها ممن لم يعرف بأن الموتى يسمعون في قبورهم؛ فهذا أصل عظيم فتدبره فإنه نافع.

ج6ص61

السبت، 15 أكتوبر 2016

المنتخب من مجموع الفتاوي لابن تيمية 21


إذا تبين هذا فقول السائل: كيف ينزل؟ بمنزلة قوله: كيف استوى؟ وقوله: كيف يسمع؟ وكيف يبصر؟ وكيف: يعلم ويقدر؟ وكيف يخلق ويرزق؟ وقد تقدم الجواب عن مثل هذا السؤال من أئمة الإسلام مثل: مالك بن أنس وشيخه ربيعة بن أبي عبد الرحمن؛ فإنه قد روي من غير وجه أن سائلا سأل مالكا عن قوله: {الرحمن على العرش استوى} كيف استوى؟ فأطرق مالك حتى علاه الرحضاء ثم قال: الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أراك إلا رجل سوء ثم أمر به فأخرج. ومثل هذا الجواب ثابت عن ربيعة شيخ مالك وقد روي هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفا ومرفوعا ولكن ليس إسناده مما يعتمد عليه وهكذا سائر الأئمة قولهم يوافق قول مالك: في أنا لا نعلم كيفية استوائه كما لا نعلم كيفية ذاته ولكن نعلم المعنى الذي دل عليه الخطاب فنعلم معنى الاستواء ولا نعلم كيفيته وكذلك نعلم معنى النزول ولا نعلم كيفيته ونعلم معنى السمع والبصر والعلم والقدرة ولا نعلم كيفية ذلك ونعلم معنى الرحمة والغضب والرضا والفرح والضحك ولا نعلم كيفية ذلك.
ج5ص365

المنتخب من مجموع الفتاوي لابن تيمية 20

: الاختلاف الثابت عن الصحابة؛ بل وعن أئمة التابعين في القرآن أكثره لا يخرج عن وجوه: -

أحدها أن يعبر كل منهم عن معنى الاسم بعبارة غير عبارة صاحبه فالمسمى واحد وكل اسم يدل على معنى لا يدل عليه الاسم الآخر مع أن كلاهما حق؛ بمنزلة تسمية الله تعالى بأسمائه الحسنى وتسمية الرسول صلى الله عليه وسلم بأسمائه وتسمية القرآن العزيز بأسمائه فقال تعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} . فإذا قيل: الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام فهي كلها أسماء لمسمى واحد سبحانه وتعالى وإن كان كل اسم يدل على نعت لله تعالى لا يدل عليه الاسم الآخر. ومثال " هذا التفسير " كلام العلماء في تفسير {الصراط المستقيم} فهذا يقول: هو الإسلام وهذا يقول هو القرآن أي اتباع القرآن وهذا يقول: السنة والجماعة وهذا يقول: طريق العبودية وهذا يقول: طاعة الله ورسوله. ومعلوم أن الصراط يوصف بهذه الصفات كلها ويسمى بهذه الأسماء كلها ولكن كل واحد منهم دل المخاطب على النعت الذي به يعرف الصراط وينتفع بمعرفة ذلك النعت.

الوجه الثاني أن يذكر كل منهم من تفسير " الاسم " بعض أنواعه أو أعيانه على سبيل التمثيل للمخاطب؛ لا على سبيل الحصر والإحاطة كما لو سأل أعجمي عن معنى لفظ " الخبز " فأرى رغيفا وقيل هذا هو فذاك مثال للخبز وإشارة إلى جنسه؛ لا إلى ذلك الرغيف خاصة. ومن هذا ما جاء عنهم في قوله تعالى {فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات} . فالقول الجامع أن " الظالم لنفسه " هو المفرط بترك مأمور أو فعل محظور و " المقتصد ": القائم بأداء الواجبات وترك المحرمات و " السابق بالخيرات ": بمنزلة المقرب الذي يتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض حتى يحبه الحق. ثم إن كلا منهم يذكر نوعا من هذا. فإذا قال القائل: " الظالم " المؤخر للصلاة عن وقتها و " المقتصد " المصلي لها في وقتها و " السابق " المصلي لها في أول وقتها حيث يكون التقديم أفضل. وقال آخر: " الظالم لنفسه " هو البخيل الذي لا يصل رحمه ولا يؤدي زكاة ماله و " المقتصد " القائم بما يجب عليه من الزكاة وصلة الرحم وقرى الضيف والإعطاء في النائبة و " السابق " الفاعل المستحب بعد الواجب كما فعل الصديق الأكبر حين جاء بماله كله؛ ولم يكن مع هذا يأخذ من أحد شيئا. وقال آخر: " الظالم لنفسه " الذي يصوم عن الطعام لا عن الآثام و " المقتصد " الذي يصوم عن الطعام والآثام و " السابق " الذي يصوم عن كل ما لا يقربه إلى الله تعالى - وأمثال ذلك - لم تكن هذه الأقوال متنافية بل كل ذكر نوعا مما تناولته الآية.

الوجه الثالث: أن يذكر أحدهم لنزول الآية " سببا " ويذكر الآخر " سببا " آخر - لا ينافي الأول - ومن الممكن نزولها لأجل السببين جميعا أو نزولها مرتين: مرة لهذا ومرة لهذا. وأما ما صح عن السلف أنهم: اختلفوا فيه " اختلاف تناقض " فهذا قليل بالنسبة إلى ما لم يختلفوا فيه كما أن تنازعهم في بعض مسائل السنة - كبعض مسائل الصلاة والزكاة والصيام والحج والفرائض والطلاق ونحو ذلك - لا يمنع أن يكون أصل هذه السنن مأخوذا عن النبي صلى الله عليه وسلم وجملها منقولة عنه بالتواتر. وقد تبين أن الله تعالى أنزل عليه الكتاب والحكمة؛ وأمر أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم أن يذكرن ما يتلى في بيوتهن (من آيات الله والحكمة) .
وقد قال غير واحد من السلف: إن " الحكمة " هي السنة؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم {ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه} . فما ثبت عنه من السنة فعلينا اتباعه؛ سواء قيل إنه في القرآن؛ ولم نفهمه نحن أو قيل ليس في القرآن؛ كما أن ما اتفق عليه السابقون الأولون والذين اتبعوهم بإحسان؛ فعلينا أن نتبعهم فيه؛ سواء قيل إنه كان منصوصا في السنة ولم يبلغنا ذلك أو قيل إنه مما استنبطوه واستخرجوه باجتهادهم من الكتاب والسنة.

ج5ص163

المنتخب من مجموع الفتاوي لابن تيمية 19

والمبطل لتأويل من تأول استوى بمعنى استولى وجوه:

أحدها: أن هذا التفسير لم يفسره أحد من السلف من سائر المسلمين من الصحابة والتابعين فإنه لم يفسره أحد في الكتب الصحيحة عنهم بل أول من قال ذلك: بعض الجهمية والمعتزلة؛ كما ذكره أبو الحسن الأشعري في كتاب " المقالات " وكتاب " الإبانة ".

الثاني: أن معنى هذه الكلمة مشهور؛ ولهذا لما سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن ومالك بن أنس عن قوله: {الرحمن على العرش استوى} قالا: الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة. ولا يريد أن: الاستواء معلوم في اللغة دون الآية - لأن السؤال عن الاستواء في الآية كما يستوي الناس.

الثالث: أنه إذا كان معلوما في اللغة التي نزل بها القرآن كان معلوما في القرآن.

الرابع: أنه لو لم يكن معنى الاستواء في الآية معلوما لم يحتج أن يقول: الكيف مجهول لأن نفي العلم بالكيف لا ينفي إلا ما قد علم أصله كما نقول إنا نقر بالله ونؤمن به ولا نعلم كيف هو.

الخامس: الاستيلاء سواء كان بمعنى القدرة أو القهر أو نحو ذلك هو عام في المخلوقات كالربوبية والعرش وإن كان أعظم المخلوقات ونسبة الربوبية إليه لا تنفي نسبتها إلى غيره كما في قوله: {قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم} وكما في دعاء الكرب؛ فلو كان استوى بمعنى استولى - كما هو عام في الموجودات كلها - لجاز مع إضافته إلى العرش أن يقال: استوى على السماء وعلى الهوى والبحار والأرض وعليها ودونها ونحوها؛ إذ هو مستو على العرش. فلما اتفق المسلمون على أنه يقال: استوى على العرش ولا يقال: استوى على هذه الأشياء مع أنه يقال استولى على العرش والأشياء علم أن معنى استوى خاص بالعرش ليس عاما كعموم الأشياء.

السادس؛ أنه أخبر بخلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش وأخبر أن عرشه كان على الماء قبل خلقها وثبت ذلك في صحيح البخاري عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {كان الله ولا شيء غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض} مع أن العرش كان مخلوقا قبل ذلك فمعلوم أنه ما زال مستوليا عليه قبل وبعد فامتنع أن يكون الاستيلاء العام هذا الاستيلاء الخاص بزمان كما كان مختصا بالعرش.

السابع: أنه لم يثبت أن لفظ استوى في اللغة بمعنى استولى؛ إذ الذين قالوا ذلك عمدتهم البيت المشهور:
ثم استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق
ولم يثبت نقل صحيح أنه شعر عربي وكان غير واحد من أئمة اللغة أنكروه وقالوا: إنه بيت مصنوع لا يعرف في اللغة وقد علم أنه لو احتج بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لاحتاج إلى صحته فكيف ببيت من الشعر لا يعرف إسناده وقد طعن فيه أئمة اللغة؛ وذكر عن الخليل كما ذكره أبو المظفر في كتابه " الإفصاح " قال: سئل الخليل هل وجدت في اللغة استوى بمعنى استولى؟ فقال: هذا ما لا تعرفه العرب؛ ولا هو جائز في لغتها وهو إمام في اللغة على ما عرف من حاله فحينئذ حمله على ما لا يعرف حمل باطل.

الثامن: أنه روي عن جماعة من أهل اللغة أنهم قالوا: لا يجوز استوى بمعنى استولى إلا في حق من كان عاجزا ثم ظهر والله سبحانه لا يعجزه شيء والعرش لا يغالبه في حال فامتنع أن يكون بمعنى استولى. فإذا تبين هذا فقول الشاعر: ثم استوى بشر على العراق لفظ مجازي لا يجوز حمل الكلام عليه إلا مع قرينة تدل على إرادته واللفظ المشترك بطريق الأولى ومعلوم أنه ليس في الخطاب قرينة أنه أراد بالآية الاستيلاء. " وأيضا " فأهل اللغة قالوا: لا يكون استوى بمعنى استولى إلا فيما كان منازعا مغالبا فإذا غلب أحدهما صاحبه قيل: استولى؛ والله لم ينازعه أحد في العرش فلو ثبت استعماله في هذا المعنى الأخص مع النزاع في إرادة المعنى الأعم لم يجب حمله عليه بمجرد قول بعض أهل اللغة مع تنازعهم فيه وهؤلاء ادعوا أنه بمعنى استولى في اللغة مطلقا والاستواء في القرآن في غير موضع مثل قوله: {استويت أنت ومن معك على الفلك} {واستوت على الجودي} {لتستووا على ظهوره} وفي حديث عدي: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بدابته فلما وضع رجله في الغرز قال: بسم الله. فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله} .

التاسع: أنه لو ثبت أنه من اللغة العربية لم يجب أن يكون من لغة العرب العرباء ولو كان من لفظ بعض العرب العرباء لم يجب أن يكون من لغة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله؛ ولو كان من لغته لكان بالمعنى المعروف في الكتاب والسنة وهو الذي يراد به ولا يجوز أن يراد معنى آخر.

العاشر: أنه لو حمل على هذا المعنى لأدى إلى محذور يجب تنزيه بعض الأئمة
عنه؛ فضلا عن الصحابة؛ فضلا عن الله ورسوله؛ فلو كان الكلام في الكتاب والسنة كلاما نفهم منه معنى ويريدون به آخر لكان في ذلك تدليس وتلبيس ومعاذ الله أن يكون ذلك فيجب أن يكون استعمال هذا الشاعر هذا اللفظ في هذا المعنى ليس حقيقة بالاتفاق؛ بل حقيقة في غيره ولو كان حقيقة فيه للزم الاشتراك المجازي فيه وإذا كان مجازا عن بعض العرب أو مجازا اخترعه من بعده أفتترك اللغة التي يخاطب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته.

الحادي عشر: أن هذا اللفظ - الذي تكرر في الكتاب والسنة والدواعي متوفرة على فهم معناه من الخاصة والعامة عادة ودينا - إن جعل الطريق إلى فهمه بيت شعر أحدث فيؤدي إلى محذور؛ فلو حمل على معنى هذا البيت للزم تخطئة الأئمة الذين لهم مصنفات في الرد على من تأول ذلك؛ ولكان يؤدي إلى الكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والصحابة والأئمة وللزم أن الله امتحن عباده بفهم هذا دون هذا مع ما تقرر في نفوسهم وما ورد به نص الكتاب والسنة؛ والله سبحانه لا يكلف نفسا إلا وسعها وهذا مستحيل على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والصحابة والأئمة.

الثاني عشر: أن معنى الاستواء معلوم علما ظاهرا بين الصحابة والتابعين وتابعيهم فيكون التفسير المحدث بعده باطلا قطعا وهذا قول يزيد بن هارون الواسطي؛ فإنه قال: إن من قال: {الرحمن على العرش استوى} خلاف ما تقرر في نفوس العامة فهو جهمي. ومنه قول مالك: الاستواء معلوم وليس المراد أن هذا اللفظ في القرآن معلوم كما قال بعض الناس: استوى أم لا؟ أو أنه سئل عن الكيفية ومالك جعلها معلومة. والسؤال عن النزول ولفظ الاستواء ليس بدعة ولا الكلام فيه؛ فقد تكلم فيه الصحابة والتابعون وإنما البدعة السؤال عن الكيفية.

ج5ص149

المنتخب من مجموع الفتاوي لابن تيمية 18


وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم {إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه فلا يبصق قبل وجهه} الحديث. حق على ظاهره وهو سبحانه فوق العرش وهو قبل وجه المصلي؛ بل هذا الوصف يثبت للمخلوقات. فإن الإنسان لو أنه يناجي السماء أو يناجي الشمس والقمر لكانت السماء والشمس والقمر فوقه وكانت أيضا قبل وجهه. وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل بذلك - ولله المثل الأعلى ولكن المقصود بالتمثيل بيان جواز هذا وإمكانه؛ لا تشبيه الخالق بالمخلوق - فقال النبي صلى الله عليه وسلم {ما منكم من أحد إلا سيرى ربه مخليا به فقال له أبو رزين العقيلي: كيف يا رسول الله وهو واحد ونحن جميع؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله هذا القمر كلكم يراه مخليا به وهو آية من آيات الله؛ فالله أكبر} أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. وقال: {إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر} فشبه الرؤية بالرؤية وإن لم يكن المرئي مشابها للمرئي فالمؤمنون إذا رأوا ربهم يوم القيامة وناجوه كل يراه فوقه قبل وجهه؛ كما يرى الشمس والقمر ولا منافاة أصلا. ومن كان له نصيب من المعرفة بالله والرسوخ في العلم بالله: يكون إقراره للكتاب والسنة على ما هما عليه أوكد.

ج5ص107

الأحد، 9 أكتوبر 2016

المنتخب من مجموع الفتاوي لابن تيمية 17

افترق الناس في " يزيد " بن معاوية بن أبي سفيان ثلاث فرق: طرفان ووسط.
فأحد الطرفين قالوا: إنه كان كافرا منافقا وأنه سعى في قتل سبط رسول الله تشفيا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتقاما منه وأخذا بثأر جده عتبة وأخي جده شيبة وخاله الوليد بن عتبة وغيرهم ممن قتلهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بيد علي بن أبي طالب وغيره يوم بدر وغيرها؛ وقالوا: تلك أحقاد بدرية وآثار جاهلية وأنشدوا عنه:

لما بدت تلك الحمول وأشرفت ... تلك الرءوس على ربي جيرون
نعق الغراب فقلت نح أو لا تنح ... فلقد قضيت من النبي ديوني
وقالوا: إنه تمثل بشعر ابن الزبعرى الذي أنشده يوم أحد:
ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل
قد قتلنا الكثير من أشياخهم ... وعدلناه ببدر فاعتدل
وأشياء من هذا النمط. وهذا القول سهل على الرافضة الذين يكفرون أبا بكر وعمر وعثمان؛ فتكفير يزيد أسهل بكثير.

والطرف الثاني يظنون أنه كان رجلا صالحا وإمام عدل وأنه كان من " الصحابة " الذين ولدوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وحمله على يديه وبرك عليه وربما فضله بعضهم على أبي بكر وعمر. وربما جعله بعضهم نبيا ويقولون عن " الشيخ عدي " أو حسن المقتول - كذبا عليه - إن سبعين وليا صرفت وجوههم عن القبلة لتوقفهم في يزيد. وهذا قول غالية العدوية والأكراد ونحوهم من الضلال. فإن الشيخ عديا كان من بني أمية وكان رجلا صالحا عابدا فاضلا ولم يحفظ عنه أنه دعاهم إلا إلى السنة التي يقولها غيره كالشيخ " أبي الفرج " المقدسي فإن عقيدته موافقة لعقيدته؛ لكن زادوا في السنة أشياء كذب وضلال من الأحاديث الموضوعة والتشبيه الباطل والغلو في الشيخ عدي وفي يزيد والغلو في ذم الرافضة بأنه لا تقبل لهم توبة وأشياء أخر. وكلا القولين ظاهر البطلان عند من له أدنى عقل وعلم بالأمور وسير المتقدمين؛ ولهذا لا ينسب إلى أحد من أهل العلم المعروفين بالسنة ولا إلى ذي عقل من العقلاء الذين لهم رأي وخبرة.

والقول الثالث: أنه كان ملكا من ملوك المسلمين له حسنات وسيئات ولم يولد إلا في خلافة عثمان ولم يكن كافرا؛ ولكن جرى بسببه ما جرى من مصرع " الحسين " وفعل ما فعل بأهل الحرة ولم يكن صاحبا ولا من أولياء الله الصالحين وهذا قول عامة أهل العقل والعلم والسنة والجماعة. ثم افترقوا (ثلاث فرق: فرقة لعنته وفرقة أحبته وفرقة لا تسبه ولا تحبه وهذا هو المنصوص عن الإمام أحمد وعليه المقتصدون من أصحابه وغيرهم من جميع المسلمين. قال صالح بن أحمد: قلت لأبي إن قوما يقولون إنهم يحبون يزيد فقال: يا بني وهل يحب يزيد أحد يؤمن بالله واليوم الآخر؟ فقلت: يا أبت فلماذا لا تلعنه؟ فقال: يا بني ومتى رأيت أباك يلعن أحدا. وقال مهنا: سألت أحمد عن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان. فقال: هو الذي فعل بالمدينة ما فعل قلت: وما فعل؟ قال: قتل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل. قلت: وما فعل؟ قال: نهبها قلت: فيذكر عنه الحديث؟ قال: لا يذكر عنه حديث. وهكذا ذكر القاضي أبو يعلى وغيره. وقال أبو محمد المقدسي لما سئل عن يزيد: فيما بلغني لا يسب ولا يحب. وبلغني أيضا أن جدنا أبا عبد الله ابن تيمية سئل عن يزيد. فقال: لا تنقص ولا تزد. وهذا أعدل الأقوال فيه وفي أمثاله وأحسنها.

أما ترك سبه ولعنته فبناء على أنه لم يثبت فسقه الذي يقتضي لعنه أو بناء على أن الفاسق المعين لا يلعن بخصوصه إما تحريما وإما تنزيها. فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمر في قصة " حمار " الذي تكرر منه شرب الخمر وجلده لما لعنه بعض الصحابة قال النبي صلى الله عليه وسلم " {لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله} " وقال: " {لعن المؤمن كقتله} " متفق عليه. هذا مع أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن الخمر وشاربها فقد ثبت أن النبي لعن عموما شارب الخمر ونهى في الحديث الصحيح عن لعن هذا المعين. وهذا كما أن نصوص الوعيد عامة في أكل أموال اليتامى والزاني والسارق فلا نشهد بها عامة على معين بأنه من أصحاب النار؛ لجواز تخلف المقتضي عن المقتضى لمعارض راجح: إما توبة؛ وإما حسنات ماحية؛ وإما مصائب مكفرة؛ وإما شفاعة مقبولة؛ وإما غير ذلك كما قررناه في غير هذا الموضع. فهذه ثلاثة مآخذ. ومن اللاعنين من يرى أن ترك لعنته مثل ترك سائر المباحات من فضول القول لا لكراهة في اللعنة. وأما ترك محبته فلأن المحبة الخاصة إنما تكون للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين؛ وليس واحدا منهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " {المرء مع من أحب} " ومن آمن بالله واليوم الآخر: لا يختار أن يكون مع يزيد ولا مع أمثاله من الملوك؛ الذين ليسوا بعادلين.

ولترك المحبة " مأخذان ": أحدهما: أنه لم يصدر عنه من الأعمال الصالحة ما يوجب محبته فبقي واحدا من الملوك المسلطين. ومحبة أشخاص هذا النوع ليست مشروعة؛ وهذا المأخذ ومأخذ من لم يثبت عنده فسقه اعتقد تأويلا. والثاني: أنه صدر عنه ما يقتضي ظلمه وفسقه في سيرته؛ وأمر الحسين وأمر أهل الحرة. وأما الذين لعنوه من العلماء كأبي الفرج بن الجوزي وإلكيا الهراسي وغيرهما: فلما صدر عنه من الأفعال التي تبيح لعنته ثم قد يقولون هو فاسق وكل فاسق يلعن. وقد يقولون بلعن صاحب المعصية وإن لم يحكم بفسقه كما لعن أهل صفين بعضهم بعضا في القنوت فلعن علي وأصحابه في قنوت الصلاة رجالا معينين من أهل الشام؛ وكذلك أهل الشام لعنوا مع أن المقتتلين من أهل التأويل السائغ: العادلين والباغين: لا يفسق واحد منهم. وقد يلعن لخصوص ذنوبه الكبار؛ وإن كان لا يلعن سائر الفساق كما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنواعا من أهل المعاصي وأشخاصا من العصاة؛ وإن لم يلعن جميعهم فهذه (ثلاثة مآخذ للعنته. وأما الذين سوغوا محبته أو أحبوه كالغزالي والدستي فلهم مأخذان:

أحدهما: أنه مسلم ولي أمر الأمة على عهد الصحابة وتابعه بقاياهم وكانت فيه خصال محمودة وكان متأولا فيما ينكر عليه من أمر الحرة وغيره فيقولون: هو مجتهد مخطئ ويقولون: إن أهل الحرة هم نقضوا بيعته أولا وأنكر ذلك عليهم ابن عمر وغيره وأما قتل الحسين فلم يأمر به ولم يرض به بل ظهر منه التألم لقتله وذم من قتله ولم يحمل الرأس إليه وإنما حمل إلى ابن زياد. (والمأخذ الثاني: أنه قد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " {أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور له} " وأول جيش غزاها كان أميره يزيد. " والتحقيق ". أن هذين القولين يسوغ فيهما الاجتهاد؛ فإن اللعنة لمن يعمل المعاصي مما يسوغ فيها الاجتهاد وكذلك محبة من يعمل حسنات وسيئات بل لا يتنافى عندنا أن يجتمع في الرجل الحمد والذم والثواب والعقاب؛ كذلك لا يتنافى أن يصلى عليه ويدعى له وأن يلعن ويشتم أيضا باعتبار وجهين. فإن أهل السنة: متفقون على أن فساق أهل الملة - وإن دخلوا النار أو استحقوا دخولها فإنهم - لا بد أن يدخلوا الجنة فيجتمع فيهم الثواب والعقاب؛ ولكن الخوارج والمعتزلة تنكر ذلك وترى أن من استحق الثواب لا يستحق العقاب ومن استحق العقاب لا يستحق الثواب. والمسألة مشهورة؛ وتقريرها في غير هذا الموضع.

وأما جواز الدعاء للرجل وعليه فبسط هذه المسألة في الجنائز فإن موتى المسلمين يصلى عليهم برهم وفاجرهم وإن لعن الفاجر مع ذلك بعينه أو بنوعه لكن الحال الأول أوسط وأعدل؛ وبذلك أجبت مقدم المغل بولاي؛ لما قدموا دمشق في الفتنة الكبيرة وجرت بيني وبينه وبين غيره مخاطبات؛ فسألني. فيما سألني: ما تقولون في يزيد؟ فقلت: لا نسبه ولا نحبه فإنه لم يكن رجلا صالحا فنحبه ونحن لا نسب أحدا من المسلمين بعينه. فقال: أفلا تلعنونه؟ أما كان ظالما؟ أما قتل الحسين؟ . فقلت له: نحن إذا ذكر الظالمون كالحجاج بن يوسف وأمثاله: نقول كما قال الله في القرآن: ألا لعنة الله على الظالمين ولا نحب أن نلعن أحدا بعينه؛ وقد لعنه قوم من العلماء؛ وهذا مذهب يسوغ فيه الاجتهاد؛ لكن ذلك القول أحب إلينا وأحسن. وأما من قتل " الحسين " أو أعان على قتله أو رضي بذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين؛ لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا. قال: فما تحبون أهل البيت؟ قلت: محبتهم عندنا فرض واجب يؤجر عليه فإنه قد ثبت عندنا في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم {قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغدير يدعى خما بين مكة والمدينة فقال: أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله فذكر كتاب الله وحض عليه ثم قال: وعترتي

أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي} " قلت لمقدم: ونحن نقول في صلاتنا كل يوم: " اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد " قال مقدم: فمن يبغض أهل البيت؟ قلت: من أبغضهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا. ثم قلت للوزير المغولي لأي شيء قال عن يزيد وهذا تتري؟ قال: قد قالوا له إن أهل دمشق نواصب قلت بصوت عال: يكذب الذي قال هنا ومن قال هذا: فعليه لعنة الله، والله ما في أهل دمشق نواصب وما علمت فيهم ناصبيا ولو تنقص أحد عليا بدمشق لقام المسلمون عليه لكن كان - قديما لما كان بنو أمية ولاة البلاد - بعض بني أمية ينصب العداوة لعلي ويسبه وأما اليوم فما بقي من أولئك أحد. ( المجموع ج4ص488)