والمبطل لتأويل من تأول استوى بمعنى استولى وجوه:
أحدها: أن هذا التفسير لم يفسره أحد من السلف من سائر المسلمين من الصحابة والتابعين فإنه لم يفسره أحد في الكتب الصحيحة عنهم بل أول من قال ذلك: بعض الجهمية والمعتزلة؛ كما ذكره أبو الحسن الأشعري في كتاب " المقالات " وكتاب " الإبانة ".
الثاني: أن معنى هذه الكلمة مشهور؛ ولهذا لما سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن ومالك بن أنس عن قوله: {الرحمن على العرش استوى} قالا: الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة. ولا يريد أن: الاستواء معلوم في اللغة دون الآية - لأن السؤال عن الاستواء في الآية كما يستوي الناس.
الثالث: أنه إذا كان معلوما في اللغة التي نزل بها القرآن كان معلوما في القرآن.
الرابع: أنه لو لم يكن معنى الاستواء في الآية معلوما لم يحتج أن يقول: الكيف مجهول لأن نفي العلم بالكيف لا ينفي إلا ما قد علم أصله كما نقول إنا نقر بالله ونؤمن به ولا نعلم كيف هو.
الخامس: الاستيلاء سواء كان بمعنى القدرة أو القهر أو نحو ذلك هو عام في المخلوقات كالربوبية والعرش وإن كان أعظم المخلوقات ونسبة الربوبية إليه لا تنفي نسبتها إلى غيره كما في قوله: {قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم} وكما في دعاء الكرب؛ فلو كان استوى بمعنى استولى - كما هو عام في الموجودات كلها - لجاز مع إضافته إلى العرش أن يقال: استوى على السماء وعلى الهوى والبحار والأرض وعليها ودونها ونحوها؛ إذ هو مستو على العرش. فلما اتفق المسلمون على أنه يقال: استوى على العرش ولا يقال: استوى على هذه الأشياء مع أنه يقال استولى على العرش والأشياء علم أن معنى استوى خاص بالعرش ليس عاما كعموم الأشياء.
السادس؛ أنه أخبر بخلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش وأخبر أن عرشه كان على الماء قبل خلقها وثبت ذلك في صحيح البخاري عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {كان الله ولا شيء غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض} مع أن العرش كان مخلوقا قبل ذلك فمعلوم أنه ما زال مستوليا عليه قبل وبعد فامتنع أن يكون الاستيلاء العام هذا الاستيلاء الخاص بزمان كما كان مختصا بالعرش.
السابع: أنه لم يثبت أن لفظ استوى في اللغة بمعنى استولى؛ إذ الذين قالوا ذلك عمدتهم البيت المشهور:
ثم استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق
ولم يثبت نقل صحيح أنه شعر عربي وكان غير واحد من أئمة اللغة أنكروه وقالوا: إنه بيت مصنوع لا يعرف في اللغة وقد علم أنه لو احتج بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لاحتاج إلى صحته فكيف ببيت من الشعر لا يعرف إسناده وقد طعن فيه أئمة اللغة؛ وذكر عن الخليل كما ذكره أبو المظفر في كتابه " الإفصاح " قال: سئل الخليل هل وجدت في اللغة استوى بمعنى استولى؟ فقال: هذا ما لا تعرفه العرب؛ ولا هو جائز في لغتها وهو إمام في اللغة على ما عرف من حاله فحينئذ حمله على ما لا يعرف حمل باطل.
الثامن: أنه روي عن جماعة من أهل اللغة أنهم قالوا: لا يجوز استوى بمعنى استولى إلا في حق من كان عاجزا ثم ظهر والله سبحانه لا يعجزه شيء والعرش لا يغالبه في حال فامتنع أن يكون بمعنى استولى. فإذا تبين هذا فقول الشاعر: ثم استوى بشر على العراق لفظ مجازي لا يجوز حمل الكلام عليه إلا مع قرينة تدل على إرادته واللفظ المشترك بطريق الأولى ومعلوم أنه ليس في الخطاب قرينة أنه أراد بالآية الاستيلاء. " وأيضا " فأهل اللغة قالوا: لا يكون استوى بمعنى استولى إلا فيما كان منازعا مغالبا فإذا غلب أحدهما صاحبه قيل: استولى؛ والله لم ينازعه أحد في العرش فلو ثبت استعماله في هذا المعنى الأخص مع النزاع في إرادة المعنى الأعم لم يجب حمله عليه بمجرد قول بعض أهل اللغة مع تنازعهم فيه وهؤلاء ادعوا أنه بمعنى استولى في اللغة مطلقا والاستواء في القرآن في غير موضع مثل قوله: {استويت أنت ومن معك على الفلك} {واستوت على الجودي} {لتستووا على ظهوره} وفي حديث عدي: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بدابته فلما وضع رجله في الغرز قال: بسم الله. فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله} .
التاسع: أنه لو ثبت أنه من اللغة العربية لم يجب أن يكون من لغة العرب العرباء ولو كان من لفظ بعض العرب العرباء لم يجب أن يكون من لغة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله؛ ولو كان من لغته لكان بالمعنى المعروف في الكتاب والسنة وهو الذي يراد به ولا يجوز أن يراد معنى آخر.
العاشر: أنه لو حمل على هذا المعنى لأدى إلى محذور يجب تنزيه بعض الأئمة
عنه؛ فضلا عن الصحابة؛ فضلا عن الله ورسوله؛ فلو كان الكلام في الكتاب والسنة كلاما نفهم منه معنى ويريدون به آخر لكان في ذلك تدليس وتلبيس ومعاذ الله أن يكون ذلك فيجب أن يكون استعمال هذا الشاعر هذا اللفظ في هذا المعنى ليس حقيقة بالاتفاق؛ بل حقيقة في غيره ولو كان حقيقة فيه للزم الاشتراك المجازي فيه وإذا كان مجازا عن بعض العرب أو مجازا اخترعه من بعده أفتترك اللغة التي يخاطب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته.
الحادي عشر: أن هذا اللفظ - الذي تكرر في الكتاب والسنة والدواعي متوفرة على فهم معناه من الخاصة والعامة عادة ودينا - إن جعل الطريق إلى فهمه بيت شعر أحدث فيؤدي إلى محذور؛ فلو حمل على معنى هذا البيت للزم تخطئة الأئمة الذين لهم مصنفات في الرد على من تأول ذلك؛ ولكان يؤدي إلى الكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والصحابة والأئمة وللزم أن الله امتحن عباده بفهم هذا دون هذا مع ما تقرر في نفوسهم وما ورد به نص الكتاب والسنة؛ والله سبحانه لا يكلف نفسا إلا وسعها وهذا مستحيل على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والصحابة والأئمة.
الثاني عشر: أن معنى الاستواء معلوم علما ظاهرا بين الصحابة والتابعين وتابعيهم فيكون التفسير المحدث بعده باطلا قطعا وهذا قول يزيد بن هارون الواسطي؛ فإنه قال: إن من قال: {الرحمن على العرش استوى} خلاف ما تقرر في نفوس العامة فهو جهمي. ومنه قول مالك: الاستواء معلوم وليس المراد أن هذا اللفظ في القرآن معلوم كما قال بعض الناس: استوى أم لا؟ أو أنه سئل عن الكيفية ومالك جعلها معلومة. والسؤال عن النزول ولفظ الاستواء ليس بدعة ولا الكلام فيه؛ فقد تكلم فيه الصحابة والتابعون وإنما البدعة السؤال عن الكيفية.
ج5ص149