السبت، 24 سبتمبر 2016

المنتخب من مجموع الفتاوي لابن تيمية 9

الحمد لله، من اعتقد ما يعتقده الحلاج من المقالات التي قتل الحلاج عليها فهو كافر مرتد باتفاق المسلمين؛ فإن المسلمين إنما قتلوه على الحلول والاتحاد ونحو ذلك من مقالات أهل الزندقة والإلحاد كقوله: أنا الله. وقوله: إله في السماء وإله في الأرض. وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا إله إلا الله وأن الله خالق كل شيء وكل ما سواه مخلوق و {إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا} وقال تعالى: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق} الآيات وقال تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} الآيتين. فالنصارى الذين كفرهم الله ورسوله واتفق المسلمون على كفرهم بالله
ورسوله: كان من أعظم دعواهم الحلول والاتحاد بالمسيح ابن مريم فمن قال بالحلول والاتحاد في غير المسيح - كما تقوله الغالية في علي وكما تقوله الحلاجية في الحلاج والحاكمية في الحاكم وأمثال هؤلاء - فقولهم شر من قول النصارى لأن المسيح ابن مريم أفضل من هؤلاء كلهم. وهؤلاء من جنس أتباع الدجال الذي يدعي الإلهية ليتبع مع أن الدجال يقول للسماء أمطري فتمطر وللأرض أنبتي فتنبت: وللخربة أخرجي كنوزك فتخرج معه كنوز الذهب والفضة ويقتل رجلا مؤمنا ثم يأمر به فيقوم ومع هذا فهو الأعور الكذاب الدجال فمن ادعى الإلهية بدون هذه الخوارق: كان دون هذا الدجال. والحلاج: كانت له مخاريق وأنواع من السحر وله كتب منسوبة إليه في السحر. وبالجملة فلا خلاف بين الأمة أن من قال بحلول الله في البشر واتحاده به وأن البشر يكون إلها وهذا من الآلهة: فهو كافر مباح الدم وعلى هذا قتل الحلاج. ومن قال: إن الله نطق على لسان الحلاج وأن الكلام المسموع من الحلاج كان كلام الله وكان الله هو القائل على لسانه: أنا الله فهو كافر باتفاق المسلمين؛ فإن الله لا يحل في البشر ولا تكلم على لسان بشر ولكن يرسل الرسل بكلامه فيقولون عليه ما أمرهم ببلاغه فيقول على ألسنة الرسل ما أمرهم

بقوله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {أما إن الله قال على لسان نبيه سمع الله لمن حمده} . فإن كل واحد من المرسل والرسول: قد يقال إنه يقول على لسان الآخر كما قال الإمام أحمد بن حنبل للمروذي: قل على لساني ما شئت وكما يقال: هذا يقول على لسان السلطان كيت وكيت فمثل هذا معناه مفهوم. وأما إن الله هو المتكلم على البشر كما يتكلم الجني على لسان المصروع: فهذا كفر صريح وأما إذا ظهر مثل هذا القول عن غائب العقل قد رفع عنه القلم لكونه مصطلما في حال من أحوال الفنا والسكر فهذا تكلم به في حال رفع عنه فيهما القلم فالقول وإن كان باطلا لكن القائل غير مؤاخذ. ومثل هذا يعرض لمن استولى عليه سلطان الحب مع ضعف العقل كما يقال: إن محبوبا ألقى نفسه في اليم فألقى المحب نفسه خلفه فقال: أنا وقعت فلم وقعت خلفي؟ قال: غبت بك عني فظننت أنك أني. وقد ينتهي بعض الناس إلى مقام يغيب فيه بمعبوده عن عبادته وبمذكوره عن ذكره وبمعروفه عن معرفته. فإذا ذهب تمييز هذا وصار غائب العقل - بحيث يرفع عنه القلم - لم يكن معاقبا على ما تكلم به في هذه الحال مع العلم بأنه خطأ وضلال وأنه حال ناقص؛ لا يكون لأولياء الله.

وما يحكى عن الحلاج من ظهور كرامات له عند قتله مثل كتابة دمه على الأرض: الله الله وإظهار الفرح بالقتل أو نحو ذلك: فكله كذب. فقد جمع المسلمون أخبار الحلاج في مواضع كثيرة كما ذكر ثابت بن سنان في أخبار الخلفاء - وقد شهد مقتله - وكما ذكر - إسماعيل بن علي الحطفي في تاريخ بغداد - وقد شهد قتله - وكما ذكر الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخه وكما ذكر القاضي أبو يعلى في المعتمد وكما ذكر القاضي أبو بكر بن الطيب وأبو محمد بن حزم وغيرهم وكما ذكر أبو يوسف القزويني وأبو الفرج بن الجوزي؛ فيما جمعا من أخباره. وقد ذكر الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية: إن أكثر المشايخ أخرجوه عن الطريق ولم يذكره أبو القاسم القشيري في رسالته من المشايخ؛ الذين عدهم من مشايخ الطريق. وما نعلم أحدا من أئمة المسلمين ذكر الحلاج بخير لا من العلماء ولا من المشايخ؛ ولكن بعض الناس يقف فيه؛ لأنه لم يعرف أمره وأبلغ من يحسن به الظن يقول: إنه وجب قتله في الظاهر فالقاتل مجاهد والمقتول شهيد وهذا أيضا خطأ. وقول القائل: إنه قتل ظلما قول باطل فإن وجوب قتله على ما أظهره من الإلحاد أمر واجب باتفاق المسلمين؛ لكن لما كان يظهر الإسلام ويبطن الإلحاد إلى أصحابه: صار زنديقا فلما أخذ وحبس أظهر التوبة والفقهاء متنازعون في قبول توبة الزنديق فأكثرهم لا يقبلها وهو مذهب مالك وأهل

المدينة ومذهب أحمد في أشهر الروايتين عنه وهو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة ووجه في مذهب الشافعي؛ والقول الآخر تقبل توبته. وقد اتفقوا على أنه إذا قتل مثل هذا لا يقال قتل ظلما.
وأما قول القائل: إن الحلاج من أولياء الله.
فالمتكلم بهذا جاهل قطعا متكلم بما لا يعلم لو لم يظهر من الحلاج أقوال أهل الإلحاد - فإن ولي الله من مات على ولاية الله يحبه ويرضى عنه والشهادة بهذا لغير من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة: لا تجوز عند كثير من العلماء أو أكثرهم. وذهبت طائفة من السلف كابن الحنفية وعلي بن المديني: إلى أنه لا يشهد بذلك لغير النبي صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: بل من استفاض في المسلمين الثناء عليه شهد له بذلك؛ لأن {النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه بجنازة فأثنوا خيرا فقال: وجبت وجبت ومر عليه بجنازة فأثنوا عليها شرا فقال: وجبت وجبت قال: هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرا فقلت وجبت لها الجنة وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرا فقلت وجبت لها النار أنتم شهداء الله في الأرض} . فإذا جوز أن يشهد لبعض الناس أنه ولي الله في الباطن إما بنص وإما بشهادة الأمة - فالحلاج: ليس من هؤلاء؛ فجمهور الأمة يطعن عليه ويجعله من

أهل الإلحاد - إن قدر على أنه يطلع على بعض الناس أنه ولي الله ونحو ذلك مما يختص به بعض أهل الصلاح. فهذا الذي أثنى على الحلاج ووافقه على اعتقاده ضال من وجوه: أحدها: أنه لا يعرف فيمن قتل بسيف الشرع على الزندقة أنه قتل ظلما وكان وليا لله فقد قتل الجهم بن صفوان والجعد بن درهم وغيلان القدري ومحمد بن سعيد المصلوب وبشار بن برد الأعمى والسهروردي وأمثال هؤلاء كثير ولم يقل أهل العلم والدين في هؤلاء إنهم قتلوا ظلما وأنهم كانوا من أولياء الله فما بال الحلاج تفرد عن هؤلاء. وأما الأنبياء فقتلهم الكفار وكذلك الصحابة الذين استشهدوا قتلهم الكفار وعثمان وعلي والحسين ونحوهم قتلهم الخوارج البغاة لم يقتلوا بحكم الشرع على مذاهب فقهاء أئمة الدين كمالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم. فإن الأئمة متفقون على تحريم دماء هؤلاء وهم متفقون على دم الحلاج وأمثاله. الوجه الثاني: إن الإطلاع على أولياء الله لا يكون إلا ممن يعرف طريق الولاية وهو الإيمان والتقوى. ومن أعظم الإيمان والتقوى أن يجتنب مقالة أهل الإلحاد - كأهل الحلول والاتحاد - فمن وافق الحلاج على مثل هذه المقالة لم يكن عارفا بالإيمان
والتقوى فلا يكون عارفا بطريق أولياء الله؛ فلا يجوز أن يميز بين أولياء الله وغيرهم. الثالث: إن هذا القائل قد أخبر أنه يوافقه على مقالته فيكون من جنسه فشهادته له بالولاية شهادة لنفسه كشهادة اليهود والنصارى والرافضة لأنفسهم على أنهم على الحق وشهادة المرء لنفسه فيما لا يعلم فيه كذبه ولا صدقه مردودة فكيف يكون لنفسه ولطائفته الذين ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنهم أهل ضلال؟ . الرابع: أن يقال: أما كون الحلاج عند الموت تاب فيما بينه وبين الله أو لم يتب: فهذا غيب يعلمه الله منه وأما كونه إنما كان يتكلم بهذا عند الاصطلام فليس كذلك؛ بل كان يصنف الكتب ويقوله وهو حاضر ويقظان وقد تقدم أن غيبة العقل تكون عذرا في رفع القلم وكذلك الشبهة التي ترفع معها قيام الحجة: قد تكون عذرا في الظاهر. فهذا لو فرض: لم يجز أن يقال قتل ظلما ولا يقال إنه موافق له على اعتقاده ولا يشهد بما لا يعلم: فكيف إذا كان الأمر بخلاف ذلك وغاية المسلم المؤمن إذا عذر الحلاج أن يدعي فيه الاصطلام والشبهة. وأما أن يوافقه على ما قتل عليه فهذا حال أهل الزندقة والإلحاد وكذلك من لم يجوز قتل مثله فهو مارق من دين الإسلام.

ونحن إنما علينا أن نعرف التوحيد الذي أمرنا به ونعرف طريق الله الذي أمرنا به وقد علمنا بكليهما أن ما قاله الحلاج باطل وأنه يجب قتل مثله وأما نفس الشخص المعين؟ هل كان في الباطن له أمر يغفر الله له به من توبة أو غيرها؟ فهذا أمر إلى الله ولا حاجة لأحد إلى العلم بحقيقة ذلك والله أعلم.

ج2ص487

المنتخب من مجموع الفتاوي لابن تيمية 8

الحمد لله رب العالمين، ما تضمنه كتاب " فصوص الحكم " وما شاكله من الكلام: فإنه كفر باطنا وظاهرا؛ وباطنه أقبح من ظاهره. وهذا يسمى مذهب أهل الوحدة وأهل الحلول وأهل الاتحاد. وهم يسمون أنفسهم المحققين. وهؤلاء نوعان: نوع يقول بذلك مطلقا كما هو مذهب صاحب الفصوص ابن عربي وأمثاله: مثل ابن سبعين وابن الفارض. والقونوي والششتري والتلمساني وأمثالهم ممن يقول: إن الوجود واحد ويقولون: إن وجود المخلوق هو وجود الخالق لا يثبتون موجودين خلق أحدهما الآخر بل يقولون: الخالق هو المخلوق والمخلوق هو الخالق.

ويقولون: إن وجود الأصنام هو وجود الله وإن عباد الأصنام ما عبدوا شيئا إلا الله. ويقولون: إن الحق يوصف بجميع ما يوصف به المخلوق من صفات النقص والذم. ويقولون: إن عباد العجل ما عبدوا إلا الله وأن موسى أنكر على هارون لكون هارون أنكر عليهم عبادة العجل وأن موسى كان بزعمهم من العارفين الذين يرون الحق في كل شيء بل يرونه عين كل شيء وأن فرعون كان صادقا في قوله: {أنا ربكم الأعلى} بل هو عين الحق ونحو ذلك مما يقوله صاحب الفصوص. ويقول أعظم محققيهم: إن القرآن كله شرك لأنه فرق بين الرب والعبد؛ وليس التوحيد إلا في كلامنا. فقيل له: فإذا كان الوجود واحدا فلم كانت الزوجة حلالا والأم حراما؟ فقال: الكل عندنا واحد ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا: حرام. فقلنا: حرام عليكم. وكذلك ما في شعر ابن الفارض في قصيدته التي سماها نظم السلوك كقوله:
لها صلواتي بالمقام أقيمها ... وأشهد فيها أنها لي صلت
كلانا مصل واحد ساجد إلى ... حقيقته بالجمع في كل سجدة
وما كان لي صلى سواي ولم تكن ... صلاتي لغيري في أداء كل سجدة
وقوله:
وما زلت إياها وإياي لم تزل ... ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت
وقوله:
إلي رسولا كنت مني مرسلا ... وذاتي بآياتي علي استدلت
فأقوال هؤلاء ونحوها: باطنها أعظم كفرا وإلحادا من ظاهرها فإنه قد يظن أن ظاهرها من جنس كلام الشيوخ العارفين أهل التحقيق والتوحيد وأما باطنها فإنه أعظم كفرا وكذبا وجهلا من كلام اليهود والنصارى وعباد الأصنام. ولهذا فإن كل من كان منهم أعرف بباطن المذهب وحقيقته - كان أعظم كفرا وفسقا كالتلمساني؛ فإنه كان من أعرف هؤلاء بهذا المذهب وأخبرهم بحقيقته فأخرجه ذلك إلى الفعل فكان يعظم اليهود والنصارى والمشركين ويستحل المحرمات ويصنف للنصيرية كتبا على مذهبهم يقرهم فيها على عقيدتهم الشركية. وكذلك ابن سبعين كان من أئمة هؤلاء وكان له من الكفر والسحر

الذي يسمى السيميا والموافقة للنصارى والقرامطة والرافضة: ما يناسب أصوله. فكل من كان أخبر بباطن هذا المذهب ووافقهم عليه كان أظهر كفرا وإلحادا. وأما الجهال الذين يحسنون الظن بقول هؤلاء ولا يفهمونه ويعتقدون أنه من جنس كلام المشايخ العارفين الذين يتكلمون بكلام صحيح لا يفهمه كثير من الناس فهؤلاء تجد فيهم إسلاما وإيمانا ومتابعة للكتاب والسنة بحسب إيمانهم التقليدي وتجد فيهم إقرارا لهؤلاء وإحسانا للظن بهم وتسليما لهم بحسب جهلهم وضلالهم؛ ولا يتصور أن يثني على هؤلاء إلا كافر ملحد أو جاهل ضال. وهؤلاء من جنس الجهمية الذين يقولون: إن الله بذاته حال في كل مكان ولكن أهل وحدة الوجود: حققوا هذا المذهب أعظم من تحقيق غيرهم من الجهمية. وأما النوع الثاني: فهو قول من يقول بالحلول والاتحاد في معين كالنصارى الذين قالوا بذلك في المسيح عيسى والغالية الذين يقولون بذلك في علي بن أبي طالب وطائفة من أهل بيته، والحاكمية الذين يقولون بذلك في الحاكم، والحلاجية الذين يقولون بذلك في الحلاج، واليونسية الذين يقولون
بذلك في يونس وأمثال هؤلاء ممن يقول بإلهية بعض البشر وبالحلول والاتحاد فيه ولا يجعل ذلك مطلقا في كل شيء. ومن هؤلاء من يقول بذلك في بعض النسوان والمردان أو بعض الملوك أو غيرهم؛ فهؤلاء كفرهم شر من كفر النصارى الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم. وأما الأولون: فيقولون بالإطلاق. ويقولون: النصارى إنما كفروا بالتخصيص. وأقوال هؤلاء شر من أقوال النصارى وفيها من التناقض من جنس ما في أقوال النصارى؛ ولهذا يقولون بالحلول تارة وبالاتحاد أخرى وبالوحدة تارة فإنه مذهب متناقض في نفسه؛ ولهذا يلبسون على من لم يفهمه. فهذا كله كفر باطنا وظاهرا بإجماع كل مسلم ومن شك في كفر هؤلاء بعد معرفة قولهم ومعرفة دين الإسلام فهو كافر كمن يشك في كفر اليهود والنصارى والمشركين. ولكن هؤلاء يشبهون بشيء آخر وهو ما يعرض لبعض العارفين في مقام الفناء والجمع والاصطلام والسكر فإنه قد يعرض لأحدهم - لقوة استيلاء الوجد والذكر عليه - من الحال ما يغيب فيه عن نفسه وغيره فيغيب بمعبوده عن عبادته وبمعروفه عن معرفته وبمذكوره عن ذكره وبموجوده عن وجوده.

ج2ص368

المنتخب من مجموع الفتاوي لابن تيمية 7

أن قوله: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} لم يرد به أن فعل العبد هو فعل الله تعالى - كما تظنه طائفة من الغالطين - فإن ذلك لو كان صحيحا لكان ينبغي أن يقال لكل أحد حتى يقال للماشي: ما مشيت إذ مشيت ولكن الله مشى ويقال للراكب: وما ركبت إذ ركبت ولكن الله ركب ويقال للمتكلم: ما تكلمت إذ تكلمت ولكن الله تكلم ويقال مثل ذلك للآكل والشارب والصائم والمصلي ونحو ذلك. وطرد ذلك: يستلزم أن يقال للكافر ما كفرت إذ كفرت ولكن الله كفر ويقال للكاذب ما كذبت إذ كذبت ولكن الله كذب. ومن قال مثل هذا: فهو كافر ملحد خارج عن العقل والدين.
ولكن معنى الآية أن {النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر رماهم ولم يكن في قدرته أن يوصل الرمي إلى جميعهم فإنه إذ رماهم بالتراب وقال: شاهت الوجوه} لم يكن في قدرته أن يوصل ذلك إليهم كلهم فالله تعالى أوصل ذلك الرمي إليهم كلهم بقدرته. يقول: وما أوصلت إذ حذفت ولكن الله أوصل فالرمي الذي أثبته له ليس هو الرمي الذي نفاه عنه فإن هذا مستلزم للجمع بين النقيضين بل نفى عنه الإيصال والتبليغ وأثبت له الحذف والإلقاء وكذلك إذا رمى سهما فأوصله الله إلى العدو إيصالا خارقا للعادة: كان الله هو الذي أوصله بقدرته. (الوجه الثالث) أنه لو فرض أن المراد بهذه الآية أن الله خالق أفعال العباد) فهذا المعنى حق وقد قال الخليل: {ربنا واجعلنا مسلمين لك} فالله هو الذي جعل المسلم مسلما وقال تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعا} {إذا مسه الشر جزوعا} {وإذا مسه الخير منوعا} فالله هو الذي خلقه هلوعا لكن ليس في هذا أن الله هو العبد؛ ولا أن وجود الخالق هو وجود المخلوق ولا أن الله حال في العبد. فالقول بأن الله خالق أفعال العباد حق والقول بأن الخلق حال في المخلوق أو وجوده وجود المخلوق باطل. وهؤلاء ينتقلون من القول بتوحيد الربوبية إلى القول بالحلول والاتحاد وهذا عين الضلال والإلحاد.

ج2ص332

الجمعة، 23 سبتمبر 2016

المنتخب من مجموع الفتاوي لابن تيمية 6

الحمد لله رب العالمين. لم تكن عادة السلف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين: أن يعتادوا القيام كلما يرونه عليه السلام كما يفعله كثير من الناس؛ بل قد قال أنس بن مالك: لم يكن شخص أحب إليهم من النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له لما يعلمون من كراهته لذلك؛ ولكن ربما قاموا للقادم من مغيبه تلقيا له كما {روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام لعكرمة} {وقال للأنصار لما قدم سعد بن معاذ: قوموا إلى سيدكم} وكان قد قدم ليحكم في بني قريظة لأنهم نزلوا على حكمه. والذي ينبغي للناس: أن يعتادوا اتباع السلف على ما كانوا عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم خير القرون وخير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم فلا يعدل أحد عن هدي خير الورى وهدي خير القرون إلى ما هو دونه. وينبغي للمطاع أن لا يقر ذلك مع أصحابه بحيث إذا رأوه لم يقوموا له إلا في اللقاء المعتاد.
وأما القيام لمن يقدم من سفر ونحو ذلك تلقيا له فحسن. وإذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام ولو ترك لا أعتقد أن ذلك لترك حقه أو قصد خفضه ولم يعلم العادة الموافقة للسنة فالأصلح أن يقام له لأن ذلك أصلح لذات البين وإزالة التباغض والشحناء؛ وأما من عرف عادة القوم الموافقة للسنة: فليس في ترك ذلك إيذاء له وليس هذا القيام المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم {من سره أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار} فإن ذلك أن يقوموا له وهو قاعد ليس هو أن يقوموا لمجيئه إذا جاء؛ ولهذا فرقوا بين أن يقال قمت إليه وقمت له والقائم للقادم ساواه في القيام بخلاف القائم للقاعد. [وقد ثبت في صحيح مسلم: {أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم قاعدا
صلوا قياما أمرهم بالقعود. وقال: لا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضا} ] (*) وقد نهاهم عن القيام في الصلاة وهو قاعد لئلا يتشبه بالأعاجم الذين يقومون لعظمائهم وهم قعود. وجماع ذلك كله الذي يصلح اتباع عادات السلف وأخلاقهم والاجتهاد عليه بحسب الإمكان. فمن لم يعقد ذلك ولم يعرف أنه العادة وكان في ترك معاملته بما اعتاد من الناس من الاحترام مفسدة راجحة: فإنه يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما كما يجب فعل أعظم الصلاحين بتفويت أدناهما.
[تعليق معد الكتاب للشاملة]
(*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص ١٨) :
وهذا الحديث بهذا اللفظ ليس في مسلم، ولفظ مسلم عن جابر رضي الله عنه مرفوعا: {إن كدتم آنفا لتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا} وهذا اللفظ المذكور هنا رواه أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه بسند فيه نظر، فيظهر أن الشيخ رحمه الله أراد بقوله (ثبت في صحيح مسلم) إلى قوله (أمرهم بالقعود) ، ثم ذكر حديثا آخر وهو (وقال: لا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضا) فالواو استئنافية لا عاطفة، ولكن يشكل عليه أنه قد تكرر هذا في ٢٧ / ٩٣: حيث قال: قد ثبت في الصحيح - وذكر هذا الحديث - والله أعلم.

ج1ص376

المنتخب من مجموع الفتاوي لابن تيمية 5

إذا عرف هذا فقد تبين أن لفظ " الوسيلة " و " التوسل فيه إجمال واشتباه يجب أن تعرف معانيه ويعطى كل ذي حق حقه. فيعرف ما ورد به الكتاب والسنة من ذلك ومعناه. وما كان يتكلم به الصحابة ويفعلونه ومعنى ذلك. ويعرف ما أحدثه المحدثون في هذا اللفظ ومعناه. فإن كثيرا من اضطراب الناس في هذا الباب هو بسبب ما وقع من الإجمال والاشتراك في الألفاظ ومعانيها حتى تجد أكثرهم لا يعرف في هذا الباب فصل الخطاب. فلفظ الوسيلة مذكور في القرآن في قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة} وفي قوله تعالى {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا} {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا} . فالوسيلة التي أمر الله أن تبتغى إليه وأخبر عن ملائكته وأنبيائه أنهم يبتغونها إليه هي ما يتقرب إليه من الواجبات والمستحبات فهذه الوسيلة التي
أمر الله المؤمنين بابتغائها تتناول كل واجب ومستحب وما ليس بواجب ولا مستحب لا يدخل في ذلك سواء كان محرما أو مكروها أو مباحا. فالواجب والمستحب هو ما شرعه الرسول فأمر به أمر إيجاب أو استحباب وأصل ذلك الإيمان بما جاء به الرسول. فجماع الوسيلة التي أمر الله الخلق بابتغائها هو التوسل إليه باتباع ما جاء به الرسول لا وسيلة لأحد إلى الله إلا ذلك. والثاني لفظ " الوسيلة " في الأحاديث الصحيحة كقوله صلى الله عليه وسلم {سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد. فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة} وقوله {من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد حلت له الشفاعة} . فهذه الوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وقد أمرنا أن نسأل الله له هذه الوسيلة وأخبر أنها لا تكون إلا لعبد من عباد الله وهو يرجو أن يكون ذلك العبد وهذه الوسيلة أمرنا أن نسألها للرسول وأخبر أن من سأل له هذه الوسيلة فقد حلت عليه الشفاعة يوم القيامة لأن الجزاء من جنس العمل فلما دعوا للنبي صلى الله عليه وسلم استحقوا أن يدعو هو لهم فإن الشفاعة نوع من الدعاء كما قال إنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا.
وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والتوجه به في كلام الصحابة فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته. والتوسل به في عرف كثير من المتأخرين يراد به الإقسام به والسؤال به كما يقسمون بغيره من الأنبياء والصالحين ومن يعتقدون فيه الصلاح. وحينئذ فلفظ التوسل به يراد به معنيان صحيحان باتفاق المسلمين ويراد به معنى ثالث لم ترد به سنة. فأما المعنيان الأولان - الصحيحان باتفاق العلماء: - فأحدهما هو أصل الإيمان والإسلام وهو التوسل بالإيمان به وبطاعته. والثاني دعاؤه وشفاعته كما تقدم: فهذان جائزان بإجماع المسلمين ومن هذا قول عمر بن الخطاب: " اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا أي بدعائه وشفاعته وقوله تعالى {وابتغوا إليه الوسيلة} أي القربة إليه بطاعته؛ وطاعة رسوله طاعته قال تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} . فهذا التوسل الأول هو أصل الدين وهذا لا ينكره أحد من المسلمين. وأما التوسل بدعائه وشفاعته - كما قال عمر - فإنه توسل بدعائه لا بذاته؛ ولهذا عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بعمه العباس ولو كان التوسل هو بذاته لكان هذا أولى من التوسل بالعباس فلما عدلوا عن التوسل به إلى التوسل
بالعباس: علم أن ما يفعل في حياته قد تعذر بموته؛ بخلاف التوسل الذي هو الإيمان به والطاعة له فإنه مشروع دائما.
فلفظ التوسل يراد به ثلاثة معان: - (أحدها التوسل بطاعته فهذا فرض لا يتم الإيمان إلا به. و (الثاني التوسل بدعائه وشفاعته وهذا كان في حياته ويكون يوم القيامة يتوسلون بشفاعته. و (الثالث التوسل به بمعنى الإقسام على الله بذاته والسؤال بذاته فهذا هو الذي لم تكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه لا في حياته ولا بعد مماته لا عند قبره ولا غير قبره ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة أو عمن ليس قوله حجة كما سنذكر ذلك إن شاء الله تعالى.

ج1ص202