وعلم الإسناد والرواية مما خص الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم وجعله سلما إلى الدراية. فأهل الكتاب لا إسناد لهم يأثرون به المنقولات، وهكذا المبتدعون من هذه الأمة أهل الضلالات، وإنما الإسناد لمن أعظم الله عليه المنة " أهل الإسلام والسنة، يفرقون به بين الصحيح والسقيم والمعوج والقويم وغيرهم من أهل البدع والكفار إنما عندهم منقولات يأثرونها بغير إسناد، وعليها من دينهم الاعتماد، وهم لا يعرفون فيها الحق من الباطل، ولا الحالي من العاطل. وأما هذه الأمة المرحومة وأصحاب هذه الأمة المعصومة: فإن أهل العلم منهم والدين هم من أمرهم على يقين، فظهر لهم الصدق من المين، كما يظهر الصبح لذي عينين. عصمهم الله أن يجمعوا على خطأ في دين الله معقول أو منقول، وأمرهم إذا تنازعوا في شيء أن يردوه إلى الله والرسول كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} . فإذا اجتمع أهل الفقه على القول بحكم لم يكن إلا حقا، وإذا اجتمع أهل الحديث على تصحيح حديث لم يكن إلا صدقا، ولكل من الطائفتين من الاستدلال على مطلوبهم بالجلي والخفي ما يعرف به من هو بهذا الأمر حفي، والله تعالى يلهمهم الصواب في هذه القضية، كما دلت على ذلك الدلائل الشرعية، وكما عرف ذلك بالتجربة الوجودية؛ فإن الله كتب في قلوبهم الإيمان، وأيدهم بروح منه، لما صدقوا في موالاة الله ورسوله؛ ومعاداة من عدل عنه. قال تعالى: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه} .
وأهل العلم المأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم الناس قياما بهذه الأصول، لا تأخذ أحدهم في الله لومة لائم، ولا يصدهم عن سبيل الله العظائم؛ بل يتكلم أحدهم بالحق الذي عليه، ويتكلم في أحب الناس إليه، عملا بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا} وقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} . ولهم من التعديل والتجريح، والتضعيف والتصحيح من السعي المشكور والعمل المبرور ما كان من أسباب حفظ الدين، وصيانته عن إحداث المفترين، وهم في ذلك على درجات، منهم المقتصر على مجرد النقل والرواية، ومنهم أهل المعرفة بالحديث والدراية، ومنهم أهل الفقه فيه والمعرفة بمعانيه.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الأمة أن يبلغ عنه من شهد لمن غاب، ودعا للمبلغين بالدعاء المستجاب، فقال في الحديث الصحيح: {بلغوا عني ولو آية؛ وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج؛ ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار} . وقال أيضا في خطبته في حجة الوداع: {ألا ليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع} . وقال أيضا: {نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه إلى من لم يسمعه، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه؛ ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم} . وفي هذا دعاء منه لمن بلغ حديثه وإن لم يكن فقيها ودعاء لمن بلغه وإن كان المستمع أفقه من المبلغ؛ لما أعطي المبلغون من النضرة؛ ولهذا قال سفيان بن عيينة: لا تجد أحدا من أهل الحديث إلا وفي وجهه نضرة؛ لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم يقال: نضر ونضر، والفتح أفصح. ولم يزل أهل العلم في القديم والحديث يعظمون نقلة الحديث حتى قال الشافعي رضي الله عنه إذا رأيت رجلا من أهل الحديث فكأني رأيت رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإنما قال الشافعي هذا؛ لأنهم في مقام الصحابة من تبليغ حديث النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الشافعي أيضا أهل الحديث حفظوا فلهم علينا الفضل؛ لأنهم حفظوا لنا اهـ.
ج1ص11
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق