الجمعة، 23 سبتمبر 2016

المنتخب من مجموع الفتاوي لابن تيمية 6

الحمد لله رب العالمين. لم تكن عادة السلف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين: أن يعتادوا القيام كلما يرونه عليه السلام كما يفعله كثير من الناس؛ بل قد قال أنس بن مالك: لم يكن شخص أحب إليهم من النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له لما يعلمون من كراهته لذلك؛ ولكن ربما قاموا للقادم من مغيبه تلقيا له كما {روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام لعكرمة} {وقال للأنصار لما قدم سعد بن معاذ: قوموا إلى سيدكم} وكان قد قدم ليحكم في بني قريظة لأنهم نزلوا على حكمه. والذي ينبغي للناس: أن يعتادوا اتباع السلف على ما كانوا عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم خير القرون وخير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم فلا يعدل أحد عن هدي خير الورى وهدي خير القرون إلى ما هو دونه. وينبغي للمطاع أن لا يقر ذلك مع أصحابه بحيث إذا رأوه لم يقوموا له إلا في اللقاء المعتاد.
وأما القيام لمن يقدم من سفر ونحو ذلك تلقيا له فحسن. وإذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام ولو ترك لا أعتقد أن ذلك لترك حقه أو قصد خفضه ولم يعلم العادة الموافقة للسنة فالأصلح أن يقام له لأن ذلك أصلح لذات البين وإزالة التباغض والشحناء؛ وأما من عرف عادة القوم الموافقة للسنة: فليس في ترك ذلك إيذاء له وليس هذا القيام المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم {من سره أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار} فإن ذلك أن يقوموا له وهو قاعد ليس هو أن يقوموا لمجيئه إذا جاء؛ ولهذا فرقوا بين أن يقال قمت إليه وقمت له والقائم للقادم ساواه في القيام بخلاف القائم للقاعد. [وقد ثبت في صحيح مسلم: {أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم قاعدا
صلوا قياما أمرهم بالقعود. وقال: لا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضا} ] (*) وقد نهاهم عن القيام في الصلاة وهو قاعد لئلا يتشبه بالأعاجم الذين يقومون لعظمائهم وهم قعود. وجماع ذلك كله الذي يصلح اتباع عادات السلف وأخلاقهم والاجتهاد عليه بحسب الإمكان. فمن لم يعقد ذلك ولم يعرف أنه العادة وكان في ترك معاملته بما اعتاد من الناس من الاحترام مفسدة راجحة: فإنه يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما كما يجب فعل أعظم الصلاحين بتفويت أدناهما.
[تعليق معد الكتاب للشاملة]
(*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص ١٨) :
وهذا الحديث بهذا اللفظ ليس في مسلم، ولفظ مسلم عن جابر رضي الله عنه مرفوعا: {إن كدتم آنفا لتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا} وهذا اللفظ المذكور هنا رواه أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه بسند فيه نظر، فيظهر أن الشيخ رحمه الله أراد بقوله (ثبت في صحيح مسلم) إلى قوله (أمرهم بالقعود) ، ثم ذكر حديثا آخر وهو (وقال: لا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضا) فالواو استئنافية لا عاطفة، ولكن يشكل عليه أنه قد تكرر هذا في ٢٧ / ٩٣: حيث قال: قد ثبت في الصحيح - وذكر هذا الحديث - والله أعلم.

ج1ص376

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق